قراءة في كواليس خطابات الرئيس بالحوض الشرقي

أربعاء, 19/11/2025 - 09:09

بين التحضير المسبق والتفاعل اللحظي… أنا رئاسي أم رؤية فريق عمل؟
لم تكن جولة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في الحوض الشرقي مجرد رحلة رسمية عابرة، بل تحولت إلى مخبر سياسي مفتوح، تكشّفت خلاله ملامح خطاب جديد، متعدد الطبقات، حافل بالرسائل ومشحون بإشارات قوة غير معهودة في الخطاب الرسمي الموريتاني. 
وقد أثار هذا الزخم أسئلة جدّية حول طبيعة هذه الخطابات:
هل كانت معدّة قبل الزيارة؟ أم أنها وُلدت من رحم التفاعل مع الجمهور؟ هل خطط لتقديمها وبالصياغة التي قدمت بها كخيار من الرئيس منفردا أم بالاستعانة بمجموعة عصف ذهني مقربة منه، أم أن تلك المجموعة كلفت بذلك على نحو يواكب الزيارة ويتصرف بأريحية رد الفعل آنيا، ومع تحين الفرص لتمرير رؤى استراتيجية للنظام لم تتح له دائما الفرص لعرضها مع ضمان تحقيق القدر المطلوب من التلقي؟
أربع ساعات ونيف من الكلام… قراءة في خرائط الزمن
تحدث الرئيس خلال الجولة مدةً بلغت 251 دقيقة و11 ثانية، أي ما يعادل أربع ساعات و11 دقيقة كاملة، وزّعت بدقّة لافتة بين مختلف المحطات:
مهرجان النعمة: 39 دقيقة و11 ثانية
لقاء أطر النعمة: 20 دقيقة و13 ثانية
ولاته: 17 دقيقة و46 ثانية
مقاطعة أظهر: 30 دقيقة و33 ثانية
باسكنو: 16 دقيقة و3 ثوان
عدل بكرو: 50 دقيقة و19 ثانية
أمرج: 23 دقيقة و46 ثانية
تمبدغه: 16 دقيقة و46 ثانية
جكني: 36 دقيقة و34 ثانية
هذه الحصيلة الزمنية وحدها تكشف عن إرادة واضحة في إيصال رسائل مختلفة، بعضها حضر سلفا، وبعضها الآخر وُلد لحظياً تحت ضغط التفاعل الميداني حتى ولو بدا وكأنه درس بعناية فائقة.

خطاب مهرجان النعمة والمضامين الجامعة...

فرضت طبيعةُ الجمهور في مهرجان النعمة—وهو جمهور من أطر الولاية ونخبها—على رئيس الجمهورية اللجوء إلى المضامين الجامعة، فجاء خطابه جامعاً تتوزع فيه الرسائل بقدر ما تتوحّد حول قضايا تُلامس هموم كل مواطن.

 فكان حديثه أشبه بخريطة شاملة لواقع البلد وتطلعاته؛ تناول فيه الوضع العام، ورؤية الحكومة للتنمية، وضرورة نقاش الشأن السياسي بعيداً عن التخوين، كما استعرض المؤشرات الاقتصادية، والتحديات الأمنية، والوضع في مالي، ومسار الخدمات الأساسية، ولم يغفل الرئيس الدعوة إلى العمل التشاركي، وتعزيز رابطة المواطنة، وترسيخ مكانة التعليم في صناعة التحول الاجتماعي، إلى جانب الحث على العمل والانخراط في ورش الإصلاحات الجارية.
النعمة وولاته… استراتيجية خطابية واحدة
لكل من لقاءي أطر النعمة وولاته نَفَس واحد؛ منصة خطابية لا تفاعلية تناوب عليها ترتيبا: رئيس الجمهورية، تلاه الوزراء ثم الأطر، وحصة رئيس الجمهورية خصصها لاستعراض الإنجازات الجارية والمخطط لها، والتأكيد على مكانة المقاطعتين.
هذا التشابه البنيوي يكشف بوضوح أن الذي ورد في كلا الخطابين كان جزءاً من الخطب المعدة سلفا قبل الزيارة.
من “أظهر” يبدأ التحول
بالاستنجاد بالحشد القبلي تنجح الاستقبالات ... وبمهاجمته تنجح الزيارة!
تغيّر إيقاع الزيارة ابتداء من مقاطعة أظهر؛ وتجلى ذلك في اعتماد التفاعل بدل تتالي الخطب:
-بأن أصبح خطاب الرئيس تعقيباً لا تقديماً.
-وإسناد مهمة الحديث عن المنجز والمأمول للوزراء.
- وخروج الرئيس عن النص "المحضّر" ليضع حواشي جديدة على خطاب النعمة، استجابة لما ولّدته الأيام الأولى من تفاعلات.
عندما تنقلت الميكروفونات الجوالة بين الساكنة بشكل عفوي، عبر الناس عن تحيتهم للبليس وللحاكم والسلطات الإدارية ... تلك هي الدولة بالنسبة لهم!
المستوى الأعلى من الدولة لديهم عنده طلب واحد: تعيين فلان أو تثبيته ... مقابل وعد ضمني لاحقا بالتصويت لخياراتها، وضمنيا أيضا على أن يتولى" فلانهم" تحقيق مصالحهم المباحة والمحرمة لدى الدولة!
هنا برز خطاب الرئيس عن القبيلة، وتحذيره للموظفين من حضور اجتماعاتها، وهو ما عُدّ رسالة سياسية–اجتماعية قوية، بعد أن لم تترك مظاهر التجييش القبلي في النعمة وولاته مجالا للتغاضي عن ذلك.

وفي مقاطعة أظهر دائما وبانبيكت لحواش تحديداً كشف الرئيس عن "وجهه الآخر"، متقدّماً إلى مواطنيه بحديثٍ يحمل قدراً من الصراحة يشبه مكاشفة النفس لنفسها.
فقد أكّد رئيس الجمهورية، أن منهجيته في تدبير الشأن العام تقوم على التدرّج والصبر والتفهّم، فمسار الأمم لا يُبنى بالقفز فوق المراحل، بل بالقدرة على رؤية البعيد وانتظار نضج اللحظة المناسبة.

غير أنّ الرئيس أوضح، بنبرة تحمل معنى الفلسفة قبل السياسة، أن الصبر ليس انكفاءً ولا تردداً، بل طاقةٌ تنفد حين تتوقف عجلة التقدم. فالصبر—كما وصفه—فضيلةٌ حين يفتح الأبواب، ورذيلةٌ حين يبرّر الجمود. ولهذا، فإن صبره ممتدّ ما دامت البلاد تتحرك إلى الأمام، لكنه ينحسر عند النقطة التي يصبح فيها الانتظارُ عائقاً أمام ما يجب أن يكون.

باسكنو… تفصيل الأمن وتثمين أدوار قواتنا المسلحة والأمنية
إياك أعنى واسمعى يا جارة ... 
في باسكنو، عاد الرئيس إلى ملف الأمن الذي أجمله في النعمة، مفصّلاً تحديات الحرب في مالي ودور الجيش في حماية الحدود.
ومرة أخرى… كان الخطاب تعقيباً متفاعلاً مع الهواجس الأمنية للساكنة وضابطا لبوصلة التعامل مع جار جعلت ممارساته غير الودية غالبا الجميع في حيرة من أمرهم بشأن الطريقة المثالية للتعامل معه.
عدل بكرو… الحاشية التعليمية 
استمرت “الحواشي” في عدل بكرو، وتحوّل أغلب حديث الرئيس- نحو أربعين دقيقة من أصل خمسين- إلى درس معمّق حول التعليم الجمهوري، ومع نحت مصطلح جديد:" التمييز الجمهوري "، جاءت العودة إلى قدسية “المعلم”، والتحذير من ضياع مشروع المدرسة الموحدة.
أمرج… الاقتصاد المفصّل 
في أمرج، فُصّل ما أُجمل سابقاً بخصوص الاقتصاد، وتحدث الرئيس عن الفرص المتاحة للنهوض المحلي، ودعا الشباب إلى الاندماج في دورة العمل.
للنهوض فرص متاحة ... نعم 
نعم... يجب على الشباب الاندماج في دورة العمل
لكن العتب على الشباب لعزوفهم عن استغلال فرص قدر الرئيس أنها أتيحت لهم، مسألة فيها نظر!
ولأنها المقاطعة التي ينحدر منها السجين السياسي المعارض: سيدنا عالي ولد محمد خونا؛ فقد قدمت فيها، في خروج على النص، بين يدي الرئيس وعلى مسامعه طلبات بإطلاق سراحه وصرخات بالتنديد باعتقاله، وهو الخروج الذي مثل إصرار ولد محمد خونا الآخر والأشهر الشيخ العافية، رغم المرض على الحضور شخصيا وتحمل الانتظار على مدرج مطار النعمة لاستقبال رئيس الجمهورية محاولة للتكفير عنه مقدما.
تمبدغه… الرسالة الأكثر صراحة
في تمبدغه خرج الرئيس عن كل قواعد خطاب النعمة وولاته، وربما المألوف من طبيعته.
هذه المرة لم يتحدث رئيس يطمئن، بل رئيس ينذر:
لا مكان في سفينة النظام لمن يستعجل الخلافة قبل أوانها.
كانت رسالة حادة، مباشرة، كشفت جانباً جديداً من شخصية الرئيس في إدارة فريقه السياسي.
تباينت الآراء بشأن التصريح:
- رأى البعض أنه بالنظر لمحدودية المعنيين باستحقاقات 2029، والحاجة لفرض الانضباط داخل الأغلبية الرئاسية، كانت الأفعال لتكون أكثر ردعا.
-  وعلى افتراض غياب الأفعال، كان النصح أو التحذير أو الأمر بالإقلاع عن التعبير عن تلك الطموحات للمعنيين أنفسهم بشكل مباشر ليفي بالغرض.
باعتبار انتماء اثنين من المعنيين بالولاية العامة للولاية المَزُورة: ملاي ولد محمد لغظف بالاعتياد، وحنن ولد سيدي بحكم المسار المجرب في عرف المكناسيين، عد الخطاب موجها لهما بشكل مباشر، ولحنن منهما بدرجة أكبر!
دخول حنن لعاصمة الولاية في موكب من أزيد من أربعة مائة سيارة وقبلها الاستقبالات التي حظي بها، وصوتية نشرت تُحدث عن تصريحه ببداية حملته لخلافة الرئيس، جعلت خصومه يضعونه المعني مباشرة بالتحذير، لكن وزير الدفاع عمليا خارج ما تقدم، لم يشكل ظهيرا لدعم طموحاته، لم يمارس تعيينات في مفاصل ودواليب الدولة، ولا هو انتمى لفصيل سياسي ينوبه أو يدعمه في إبراز حظوظه في الفوز بقرار الرئيس اختياره لخلافته، بعبارة واحدة لم يصدر عنه ما يربك تنفيذ البرنامج الرئاسي.
ولد احويرثي ولد مرزوق وولد إجاي على خلاف وزير الحربية يمتلكون من الوسائل مالا يتوانون عن توظيفه في طموحاتهم بخصوص استحقاقات 2029، وتربك صراعاتهم تحت الطاولة وفوقها تنفيذ طموحات الرئيس، معنيون بالتحذير أكثر من ممثلي الحوض الشرقي في الطموح لمعانقة الولاية العامة بعد قطيعة دهر.
جكني… “الفساد عدو التنمية”
ختامه مسك...
مدينة الأحلاف الثلاثة استقبلت الرئيس باتفاق تام بين تلك الأحلاف على إنجاح الزيارة، ومع ذلك نقلت ضمن ضجيج أخبار الزيارة صرخات وهتافات غير مرحبة ولا ودية اتجاه الزائر الكبير!
ترك الرئيس العاصمة تصخب بالحديث عن الفساد؛ ما كشف تقرير محكمة الحسابات، والذي أعقبه من ارتباك رسمي؛ جسدته محاولة رئيس المحكمة لتفسير ما سطر تقرير قضاة محكمته على نحو لم يقنع أحدا، ثم تولي الوزير الأول نقض تلك المحاولة والظهور بمظهر الصرامة والحسم مع من طال التقرير تسييرهم، قبل أن تعود وسائل الإعلام العمومية للقيام بحملة استضافت فيها وزراء من الحقبة الطائعية ليشهدوا بشأن غياب الفساد في كل ما حوى تقرير محكمة الحسابات!
تذكر رئيس الجمهورية كيف ترك سكان نواكشوط وهو في ختام جولته فخاطب أهل جكني بخطاب أكد فيه بوضوح أن التنمية لا تقوم مع الفساد، وأن معركته ضده ليست مجرد شعار.
هل تكلم الرئيس باسمه ... أم بما قدم فريق عمل بدأ يأخذ مكانه على المسرح السياسي الصاخب؟
قوة الخطابات، ووضوح رسائلها، وعمقها الاستراتيجي، والتفاعل الواسع الذي حظيت به
القراءة الأولية توحي بأن الخطابات الثلاثة الأولى فقط—النعمة، لقاؤها، وولاته—كانت معدة قبل الزيارة، بينما تشير طبيعة الخطابات السبع اللاحقة إلى أنها وُلدت من رحم التفاعل الميداني، خصوصاً ما تعلق بالقبيلة والتعليم ورفض للحديث المبكرعن الخلافة.
هذه النبرة غير المألوفة، الحاسمة أحياناً، توحي أنها أعدت من طرف خارج الحلبة الميدانية، طرف لا بد أنه جهة موثوقة ومقربة حد الحميمية مع الرئيس، ومتمتعة فوق ذلك بقدرة على التقاط اللحظة وصياغتها بلغة سياسية واضحة ودقيقة.
جهة لو لم يكن وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين بحكم عضويته في الوفد الوزاري وانشغاله بأعباء تنظيم الزيارة لكان الاحتمال الأول لأن يكون تلك الجهة أو المشرف عليها. 
والحالة كذلك تبرز فرضية أقرب إلى التصديق:
الوزير السابق ورئيس الحزب الحاكم الأسبق محمد محمود ولد محمد الأمين منفردا أو من خلال الاستعانة بفريق قائم وإن لم يكن بشكل رسمي قوامه مجموعة من الحكماء من مخضرمي الأنظمة التي حكمت موريتانيا منذ الاستقلال يتواصل معها الرجل ويعتصم بها النظام من هيمنة متعاظمة لحركة سياسية متلونة توشك أن تهيمن عليه، هو أو هم الجهة ذات البصمة البارزة في تدخلات الرئيس خلال هذه الزيارة.
منذ فترة ليست بالقصيرة نشط الرجل من أجل تشكيل فريق عصف ذهني من أهل الخبرة والتجربة خدمة لنظام يتماها معه واقعيا، ولعل تدخل الفريق ونجاحه في ما عرفت الزيارة من زخم أحسن فرصة لتوجيه رسالة لحركات سياسية أشركها النظام دون مقابل، فطمحت لأكثر من الشراكة، أن الحاجة لها لم تعد قائمة ...

#نوافذ