ولد ببكر رجل دولة وشاعر مجيد وقارئ نهم

اثنين, 16/11/2015 - 13:21

كانت لقاءاتي مع الوزير الأول الأول سعادة السفير سيد محمد ولد ببكر قليلة، لكنها كانت كما نقول في الحسَّانِيَّة "أنْعَاجْ"، وبدأت بعد انتخابي رئيسا لفريق الخبراء العرب المعني بمكافحة الإرهاب، حيث كان حينها السفيرَ الموريتاني بالقاهرة، والمندوبَ الدائم لدى جامعة الدول العربية..

وقد كان للجهد الدبلوماسي المكثف الذي قام به الدور الأكبر في انتخاب مرشح موريتانيا لذلك المنصب، حدثني معالي السيد وزير الشؤون الخارجية والتعاون وقتها بذلك، فهو يتمتع بعلاقات عربية كبيرة، وكما سمعتُ فقد كان عميد الدبلوماسية العربية وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل رحمة الله عليه يحرص دائما على السلام عليه ومعانقته، من بين المندوبين الدائمين..

جمعني به اللقاء الأول على غداء شرفني به في منزله، وضمني وإياه اللقاء الثاني على مائدة أخي الكريم العقيد محمد أحمد ولد اسماعيل ولد الرباني الملحق العسكري في القاهرة، ثم تلا ذلك لقاء عمل أو اثنين في مكتبه..

لم تكن صفات رجل الدولة التي يتمتع بها سيد محمد بحاجة إلى فطنة القاضي لاكتشافها، فقد كانت واضحة بارزة في سمته وعمله..

يتمتع الرجل بهدوء تام، ولياقة دبلوماسية عالية، وأخلاق رفيعة، ولديه قدرة فائقة على التعامل مع الجميع بغض النظر عن مستوياتهم، ويمسك بملفات العمل المختلفة كأنه متخصص في كلها..

يُقال إن رضا الناس غاية لا تدرك، لكن سيد محمد ممن كسروا هذه القاعدة، فكل من لقيتهم ممن عرفوه راضون عنه..

كان سيد محمد أول وزير أول في العهد الديمقراطي الذي بدأ مع دستور 1991، وقد وَلِيَّ الحكومة في ظروف صعبة، فالبلاد خارجة من انتخابات أزَّمت الأوضاع أكثر مما نفَّستها، وتداعيات حرب الخليج الاقتصادية تضغط بِكَلْكَلِهَا على الدولة المنهكة منذ أحداث 89..

ورغم ما وُصِفَ به ذلك العهد من خنق للحريات، وفساد مالي، فقد خرج سيد محمد نظيف اليد والسمعة، بعلامة جيد في تنفيذ المشاريع الحكومية الخدمية، ليؤهله ذلك لاحقا لقيادة الحكومة الموريتانية في ظرف صعب وحساس آخر، بعد الإطاحة بنظام ولد الطائع 2005..

واستطاع مرة أخرى ـ وفي سقف زمني محدد ـ تنفيذ برنامج العمل الحكومي ذي الأبعاد المتعددة الذي تُشُووِرَ فيه، وحظي بإجماع القوى السياسية والاجتماعية و المدينة..

وكانت فترته في العمل الدبلوماسي الخارجي أيضا فترة متميزة، خدم فيها البلاد من عواصم إقليمية ودولية كبيرة، ينهيها الآن من الأمم المتحدة..

ليس فيما تقدم جديد بالنسبة لمن يعرفون ولد بُبَكَّرْ، أو سمعوا عنه، فالكل يعرف أنه رجل دولة محنك، وإداري مالي ناحج، وصاحب علاقات عامة من الدرجة الأولى..

لكن الذي لا يستوي فيه الناس عنه، أنه من كبار مثقفي موريتانيا، وقارئ نهم، لا حدود لقراءاته، وصاحب مكتبة شخصية كبيرة، وشاعر مجيد..

أثناء عمله في القاهرة أنشأ مع زميله الأديب والمثقف الكبير قَيْس العزَّاوي سفير العراق ومندوبه لدى الجامعة العربية صالونا أدبيا باسم "الصالون الثقافي العربي" الذي انتسب إليه وتعهده عدد كبير من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، مجددين بذلك عهد القاهرة بالصالونات الأدبية..

وقد مثَّل سيد محمد الثقافة الموريتانية بمختلف ألوانها، والشعر منها خاصة خير تمثيل في هذا النادي الأدبي الرفيع بحضور قامات ثقافية كبيرة..

في إحدى أمسيات الصالون الثقافي العربي على ضفاف النيل طاب سمر سيد محمد مع صديقه قيس العزواي، وكان الجو شاعريا، فنظم في المشهد:

كُلُّ شيءٍ مِنْ حولِنَا يا خَلِيلِي ـ ـ ساحرٌ في هذا المساء الجميلِ

روضةٌ من روضِ العراق ونَخْلٌ ـ ـ باسقاتٌ على ضفافِ النِّيلِ

مجــلسٌ من بَغْدَادَ فاحَ شَذَاهُ ـ ـ مُفْعَمًا بالأشواق من ألفِ ميلِ

سَــــمَرٌ يَمْلَأُ الصدورَ انْشِرَاحًا ـ ـ وحديثٌ مثلُ النسيمِ العليلِ

إِنَّـــهُ الصَّالونُ الثقافي يَرْوِي ـ ـ قِصَّةَ الشِّعْرِ والغِنَاءِ الأصِيلِ

فِيــــــهِ خُضْنَا للفكرِ كُلَّ عُبَابٍ ـ ـ وسَــــــلَكْنَا للفنِّ كُلَّ سَبِيلِ

وانْتَشَيْنَا، وما احْتَسَيْنَا سوى ـ ـ كأس التَّصَافي ومائِهَا السَّلْسَبِيلِ/أ هـ

وقد احتفى أعضاء الصالون بهذه الأبيات، فكتبوها، وعلقوها لوحةً جدارية له، وبعد تحويل سيد محمد من القاهرة إلى نيويورك، أقام أعضاء الصالون بمبادرة من سفير العراق قيس العزاوي حفلا لتوديعه وتكريمه، وعند إعطائهم الكلمة له، تكلم لهم شعرا، فقال:

فِرَاقُ مصرَ عَلَى عُشَّاقِهَا يَقْسُو ـ ـ وهل تُفارق طوعًا جسمَها النَّفْسُ؟

لَهْفِي على عهد خُلَّانٍ صَحِبْتُهُمُ ـ ـ وطالما كان لي في قربهم أُنْسُ

وموطنٍ آيةٍ في الحسن، ما طَلَعَتْ ـ ـ على ربوع بلادٍ مثلِه شَمْسُ

حامي حمى بيضة الإسلام أَزْهَرُهُ ـ ـ يهدي إلى مِلَّةٍ ما شابها لَبْسُ

أَجْنَادُهُ خير جُنْدِ الأرض قَاطِبَةً ـ ـ سيف العروبة في الهَيْجَاءِ والتُّرْسُ

لَــــئِنْ تقــدَّمَ قوم في زَمَانِهِمُ ـ ـ فمصرُ طولَ الزمان الأوجُ والرأسُ

ومصرُ مهما طغى الإعصارُ آمِنَةٌ ـ ـ بِقُوَّةِ اللهِ لا خوفٌ ولا بأسُ

لَيْلُ الأعاصير حَتْمًا يَنْجَلِي، وَغَدًا ـ ـ سفينة النِّيلِ في مينائها ترسُو

ولا أقولُ وداعًا عند فُرقتنا ـ ـ لكن إلى مُلتقى الأحباب... يَا قَيْسُ

ولسيد محمد شعر آخر في أغراض أخرى، ومنه الأبيات التالية، ومناسبتها أن السيدة الفاضلة عقيلته كانت في رحلة استشفاء خارج مصر، وأثناء ارتياده صباحا لنادي الصيد المشهور هنا لممارسة رياضته تَنَبَّهَ لعصفور يشدو، فشدا:

هَزَارَ الرَّوْضِ طَابَ لَكَ الغِنَاءُ ـ ـ على فَنَنٍ يُدَاعِبُهُ الهواءُ

فلا شوقٌ لديك إلى قرينٍ ـ ـ قضى بالبعد بينكما القضاءُ

ولا حزنٌ لديكَ على عَزِيزٍ ـ ـ أصيبَ وما بمصرَ له دواءُ

يُذَكِّرُنِي الصباحُ حبيبَ قَلْبِي ـ ـ وَأذْكُرُهُ إذا حلَّ المساءُ

دَعَوْتُ اللهَ أن يُشْفَى سريعًا ـ ـ وعند الله مَوْلَانَا الشِّفَاءُ

عَسَانِي والبَنُونَ نَقَرُّ عَيْنًا ـ ـ ويجمعُنا بمن نَهْوَى لِقَاءُ

وما هذا على المَوْلَى بِصَعْبٍ ـ ـ وَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ/ أ هـ

سيد محمد ضليع كذلك في اللغة العربية وآدابها، ويحرص أشد الحرص على بقاء شعره بعيدا عن متناول الناس، ويكتمه إلا عن خاصة أصدقائه، وتلزم فطنة القاضي لاكتشاف شيء من مواهبه الأدبيه والثقافية لشدة تغطيته عليها..

يُغادر الآن رجل الدولة الشاعر (وألقابه عديدة) سيد محمد ولد ببكر الدبلوماسية الموريتانية عائدا للوطن ـ وكما سمعتُ ـ إلى عُمُره الثالث (التقاعد) بعد عُمْرَيْن مبارَكَيْن، بتوفيق الله، أولهما في الدراسة بتفوق، وثانيهما في خدمة وطنه بنجاح..

أسأل الله أن يفسح له في عُمره الثالث، وأن يُنعم عليه بالصحة والعافية ورؤية ما يَسُرُّ في الأبناء والأحفاد والأحباب، وأن يُيَسِّرَ له أمره كله، ويُوفقه لكتابة مذكراته، فالمذكرات هي "مرافعة" رجل الدولة في محكمة التاريخ أمام من تولى من شأنهم العام شيئا..

 

القاضي أحمد عبد الله المصطفى