عن رحلة المختارين

اثنين, 14/03/2022 - 18:23

رحلة المختارين
نشر المركز الثقافي للكتاب (الذي يوجد مقره في الدار البيضاء بالمملكة المغربية) مؤخرا، مذكرات الدكتور محمد المختار ولد اباه، حفظه الله، المعنونة "رحلة مع الحياة" والتي تضمنت معلومات تاريخية هامة ارتأيت أن أعلق منها على ما ركز عليه المؤلف من خلاف مع الرئيس المؤسس الأستاذ/ المختار ولد داداه، رحمه الله، على خلفية العلاقات الموريتانية المغربية، أيام إعلان استقلال بلادنا.
ولو لم يتعلق الأمر بوجود الدولة الموريتانية، الذي يفترض أنه يهم كل مواطن، لساغ استهجان جرأة غلام مثلي، على التعقيب على ما أورده ولد اباه فيما شجر بينه وبين ولد داداه. ولولا ذلك الاعتبار لما تجرأت على التدخل فيما بين المختارين احتراما لنفسي وللأواصر الخاصة التي جمعت الرجلين البارزين.
ولكن نشر الكتاب، أي كتاب، ليس حدثا عابرا وإنما واقعة بارزة لها ما بعدها، وبحكم مكانة كاتب "رحلة مع الحياة" لا غرو أن "يسهر الخلق جراه ويختصم".. .
ونذكر أنه في سنة 1990 نشر الكاتب الفرنسي جيل بيرو كتابه "صديقنا الملك" notre ami le roi الذي اعتبرت المملكة المغربية أنه أساء لعاهلها ونجم عنه توتر بالغ في علاقاتها بفرنسا لا تزال تفاعلاته تتردد بعد ما يربو على ثلاثة عقود.
1.
ذكر الدكتور محمد المختار أنه عين وزيرا بموريتانيا، خلال شهر مايو سنة 1957، إبان الحكم الذاتي في إطار الدولة الفرنسية وأنه هاجر، بعد سابق تنسيق مع الأمير محمد فال ولد عمير والدي ولد سيدي باب، حيث انضموا لأحمدو ولد حرمه بالمملكة المغربية التي عينتهم في مناصب رفيعة كان نصيب ولد اباه منها الإدارة العامة للإذاعة المغربية (يونيو 1960).. وبعد نيل موريتانيا استقلالها أورد المؤلف أن العاهل المغربي الحسن الثاني، رحمه الله، كلفه بالتباحث مع سلطات انواكشوط والعمل على إقناعها بقبول التفاوض حول انضمام البلاد للحكم المغربي بطريقة أو بأخرى. 
2.
وتعقيبا على رفض ولد داداه التجاوب مع المساعي المغربية أورد ولد اباه في الصفحة 155 من مذكراته ما نصه: (عندما أطلعت جلالة الملك الحسن الثاني على فحوى جواب الرئيس المختار قال لي: لقد تأكدت من هذا عبر اتصالات أخرى قمت بها،  ثم فكر مليا وقال لي "لقد كنت أعارض رجوعكم إلى موريتانيا، ولكني الآن لا أمانع في عودتك أنت والأمير ولد عمير فبإمكانكم في موريتانيا أن تبلغوا أني لن أحطم أبدا استقلال موريتانيا، لأسباب  استراتيجية وأخلاقية"..) ويبدو أنه إثر ذلك التوجيه الملكي رجع ولد اباه وولد عمير إلى موطنهما سنة 1963 ولم يكونا مقتنعين تماما بأن من حق أو مصلحة موريتانيا (على اختلاف في التأويل) أن ترفع علمها الخاص وأن تقرر مصيرها بنفسها دون تنسيق مع غيرها.. وبعد وصول انواكشوط فجأة، ودون إذن مسبق من السلطات الموريتانية، فجر الثالث مارس 1963، تم توقيف محمد فال ولد عمير ومحمد المختار ولد اباه والشيخ أحمدو ولد سيدي ومحمد أحمد ولد التقي ونقلوا إلى إقامة جبرية بتيشيت، دامت شهرا، قبل أن يعتقلوا لاحقا وتقيد إقامة كل واحد منهم، لمدة أطول، في مكان ناء عن باقي رفاقه.. ويتم التحقيق معهم بتهم الخيانة العظمى والتواطؤ مع العدو والمساس بأمن الدولة.
3.
وأورد الدكتور اباه في مذكراته تنكبه إعلان البراءة من المغرب ورفض رفاقه الاعتذار عما نسب إليهم كما سرد بعض الأسئلة التي يستشف من استحضار أجوبته عليها أنه رغم العودة كانت تخامره بقية ولاء للعرش المغربي.
صحيح أن ولد داداه فيما يبدو لم يجد بدا من الاستعانة بالفرنسيين لتسيير مرافق الدولة الناشئة وربما قدر أن المستعمر الفرنسي راحل لا محالة، عاجلا أو آجلا، بحكم اختلاف عرقه ودينه ولغته وبعد دياره وأنه سيترك كيانا موريتانيا مستقلا أما المغرب فربما قدر رئيسنا المؤسس أن اجتثاثه سيكون أمرا صعبا ولذلك ارتأى أن من الحزم منع بذوره من الارتباط بالأرض.
4.
ويدرك العارفون المطالعون لوقائع ما أورد ولد اباه أنه لا غرابة أن أسفرت المحاكمة عن إدانته ورفاقه فسيادة الدولة خط أحمر وأن الحكم عليهم مع وقف التنفيذ كان متسامحا ويعلل باستواء الدولة قائمة بينما حكم على المداني السباعي بعقوبة نافذة على خلفية اتهامه بدخول البلاد للتواصل مع مواطنين لحساب دولة أجنبية. ولئن لزم تصديق الدكتور المبرز محمد المختار ولد اباه بأن لا علم له بمهمة المداني إلا أن ذلك لا يقتضي بالضرورة نفي تهمة التخابر عن الأجنبي الذي قد يكون اعتقل قبل ربط الاتصال بقومنا وبذلك يكون عدم استجوابهم عن صلتهم به واردا.
5.
وأعتقد أن الأستاذ/ المختار ولد داداه، رحمه الله، تصرف بالحزم المناسب لرجل دولة وليدة في مواجهة المطالب المغربية بالسيادة على بلاده وأنه لو كان تساهل في الأمر لما قامت للدولة الموريتانية قائمة. ومما أعجبني رفض الرئيس/ المختار ولد داداه مجرد الخوض مع مواطنيه ولد اباه وولد عمير، بعد عودتهما، في شأن علاقات موريتانيا مع المملكة المغربية وإن لم أتبين سبب قبول الرئيس أن يضم وفد يرافقه إلى المملكة المغربية لاحقا، بعد اعترافها بموريتانيا واستئناف العلاقات بين البلدين، مواطنين موريتانيين لهم سابقة مغربية. كما لم أدرك السبب الذي حمل ولد اباه على الاعتقاد بأن بعض محتويات مذكرات المختار ولد داداه كتبت له ولم يكتبها بنفسه.
6.
إن الروابط التاريخية بين الشناقطة والمغاربة وبخاصة آل مولاي إسماعيل، تعكس علاقات ود طبيعية في الظروف العادية وقد كانت وثيقة قبل أن يجيء مخاض الدولة وعادت كذلك بعد استواء الكائن الوطني واقفا.
7.
وبحكم خبرة الدكتور محمد المختار ولد اباه في قيادة الطائرات لا بد أنه يدرك حساسية وقت الإقلاع وما يتعين أن يكون عليه القائد في ذلك الظرف الحساس من يقظة وحزم.

محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم