المدرسة الجمهورية... حين يكون التعليم وسيلة بناء تماسك المجتمع ووحدته

اثنين, 29/08/2022 - 12:12

الوطنية عاطفة قوية يُحس بها المواطن نحو وطنه، وهي رابطة متينة تشده إليه، وتدفعه للعمل بكل ما يستطيع من قوة من أجل المحافظة على أمنه واستقراره، وتتطلب الوطنية الإخلاص والصدق والأمانة والغيرة على المصلحة العامة، كما تتطلب تأدية الواجبات الوطنية.

وحفاظا على الهوية الخاصة بكل مجتمع تبرز أهمية المواطنة التي تعمل على إكساب الفرد المناعة من خلال تربية وطنية، تركز على القيم والمبادئ السامية، عبر ما تقوم به المدرسة من تنمية للقيم في نفوس التلاميذ والطلبة، الذين يمثلون نتاج المجتمع الذي تعتبر المدرسة أحد أنساقه.

ومنذ القديم تفطن الإنسان لدور التربية في المواطنة، حيث كان الإغريق على وعي بضرورة بناء فضاء ديمقراطي مشترك لتطوير التربية والمعارف، وقد قال أرسطو: " ليس هناك من مدينة فاضلة بدون تربية ملائمة".

كما أن جون ماسي الذي أنشأ رابطة التعليم في فرنسا سنة 1860م قد جعل شعار الرابطة " التربية طريق للحرية والمواطنة ".

وفي الألفية الجديدة تم اعتماد سنة 2005م بوصفها السنة الأوروبية للمواطنة، ولقد أعلنت الدول الأوربية سنة 2004م السنة الأوربية للتربية من خلال الرياضة، وكان شعار المناسبة: الرياضة بوابة الديمقراطية.

ويتضح من كل ذلك أن التربية على المواطنة في حقيقتها عملية مستمرة، تتضمن موضوع التربية والتعليم، وتركز على المواطنة في علاقتها بالإنسان والمجتمع، والبيئة، والوطن، انطلاقا من كون الفرد يعيش دائما ضمن جماعة ولا يعيش منعزلا في أية مرحلة من مراحل حياته.

فالتربية على المواطنة إذن؛ هي نشاط تربوي يهدف إلى تنشئة التلميذ، وتنمية شخصيته بشكل شمولي ليكون مواطنا ذا شخصية متوازنة، يشارك بشكل فاعل في بناء وطنه، ويتبنى قضاياه، ويدافع عنه، ويحافظ على ممتلكاته، ويمارس حقوقه وواجباته، التي كفلها له الدستور، وينخرط في العمل، ويسهم بفاعلية في الحياة اليومية.

المدرسة الجمهورية... أول الغيث

في السياق المحلي كان وعي رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني بمحورية التربية في بناء الإنسان، بارزا من خلال تعهده في برنامجه الانتخابي "تعهداتي" بالشروع " دون تأخير في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لإرساء قواعد المدرسة التي نحلم بها جميعا لأجيالنا الصاعدة ".

وحدد ولد الشيخ الغزواني معالم هذه المدرسة بقوله: " "مدرسة يجد فيها كل طفل موريتاني فرصة لنمو طاقاته، وتفتق مواهبه، في جو تعليمي هادئ، تطبعه القيم النبيلة، المستمدة من ديننا الحنيف، وثقافتنا الإفريقية، مدرسة تجمع بين مقتضيات الأصالة، ومتطلبات العصرنة، مدرسة تشكل بوتقة للمساواة، والتلاحم الاجتماعي، مدرسة توفر لكل فرد فرصة اكتساب المعارف، والمسلكيات والمهارات، التي تضمن له النجاح في حياته الشخصية والمهنية، طبقا لقدراته واختياره الشخصي. "

وهكذا أكد ولد الغزواني في إعلان ترشحه: أن قناعته راسخة بأن التعليم هو الوسيلة الوحيدة لضمان الرقي الاجتماعي والرفاه الاقتصادي للأفراد والمجتمعات، ومن "هنا سينصب جل اهتمامي على إيجاد حلول جذرية للمشاكل البنيوية التي يعاني منها القطاع وعلى هذا الأساس سأشرع دون تأخير في العمل على إعادة تأسيس منظومتنا التربوية".

وفي أول افتتاح دراسي في عهده أعلن ولد الغزواني أن "التعليم يمثل أولوية الأولويات" بالنسبة له، مبشرا بمدرسة جمهورية، تعزز اللحمة الوطنية، وتخلق فضاء علميا ومعرفيا جامعا، يضطلع بمهمة التنشئة الاجتماعية للنشء، بمختلف انتماءاته، وأوساطه الاجتماعية، ومستوياته المادية، بغية تأهيله للاطلاع بمسؤولية تنمية المجتمع، والنهوض بالوطن، حتى يتمكن أبناؤه من تقاسم وتمثل القيم الجامعة، والثوابت المجتمعية الراسخة، الخادمة لتعزيز روح المواطنة، والوحدة الوطنية، والوئام الاجتماعي.

لقد كان إعلان التأسيس للمدرسة الجمهورية الحديثة يعني فيما يعنيه مراجعة الرسالة التربوية شكلا ومضمونا، بوصفها القاعدة الأساسية لتنشئة أجيال الغد على قيم التضحية، والمواطنة، واحترام القانون، والتشبث بالثوابت الجامعة، وذلك من أجل غربلة وتحديث المناهج التربوية الوطنية، على أساس تلبية الحاجيات الآنية والمستقبلية لشعبنا، وبذلك انطلقت مقاربة إصلاحية يدرك المُتَلَمّس لخطاها أنها تستحضر ما تقتضيه المرحلة من تعزيز لقيم المواطنة.

ثلاثة أثافي بالغة الرمزية

ترجم الرئيس محمد ولد الغزواني تعهده بالتأسيس لمدرسة جمهورية في ثلاثة مستويات هي الكادر البشري، والبنية التحتية، والكتاب المدرسي، بوصفها أركانا للعملية التربوية، فــ "ثمن مهنة المدرس"، وأطلق ورشات البنية التحتية، وعزّز وجود الكتاب المدرسي، بعد تهذيبه وتشذيبه.

إلا أنه وقبل هذا وذاك وضع ثلاثة أثافي تحت القِدْر الذي يراد له أن ينضح المدرسة الجمهورية، هذه الأثافي تمثلت في عودة سُنّة رفع العَلَمِ، وتلحين النشيد إلى الصباحيات المدرسية، والسعي لفرض زي مدرسي موحد، يذيب الفوارق بين أبناء المدرسة الجمهورية، بعدما تعززت فيهم روح المواطنة، وهم يُحيُّون علمهم، ويرددون كلمات نشيدهم المشبعة بقيم التضحية والفداء.

القانون التوجيهي ..فتح تربوي لا بد منه

لعلنا مجمعون أن تعزيز قيم المواطنة لا يمكن تَخَيُّله إلا عبر تعزيز التواصل بين أبناء الشعب الواحد: حيث تشير المعطيات العالمية إلى أن اللغة هي البوابة الرئيسة لتربية الأجيال على نفس القيم والمبادئ الشاملة، التي تحقق التماسك والانسجام الثقافي.

 ولذلك عمدت معظم الأنظمة السياسية عبر التاريخ إلى فرض لغة واحدة على أبناء شعبها لتوحيدهم وتقوية لحمتهم، وانطلاقا من ذلك فإننا إذ نتحدث عن المواطنة وقيم الجمهورية، لا يمكن إلا أن نعتبر القانون التوجيهي للنظام التربوي الوطني رقم 22-018، فتحا مبينا به "تكتمل خطوة أخرى كبيرة على طريق إرساء المدرسة التي يرتضيها الموريتانيون لتربية ناشئتهم، تنفيذا للبرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية " ــ حسب تعبير وزير التهذيب الوطني محمد ماء العينين ولد أييه ــ.

وبهذا الفتح ستعزز مكانة لغة الدستور، باعتبارها لغة تدريس حاملة للمعارف، كما سيحقق هذا القانون التوجيهي مزيدا من التواصل والترابط بين مكونات المجتمع من خلال تدريس اللهجات الوطنية.

تأميم التعليم الابتدائي ..خطوة في اتجاه المساواة والدمج

اليوم وبعد ثلاث سنوات من رسم معالم المدرسة الجمهورية يأتي الإعلان عن حصر التعليم الأساسي أو بعض حلقاته الأولى في مؤسسات التعليم العمومي، وهي خطوة مهمة وقرار ينبغي أن يتعزز، باعتباره معززا لقيم الجمهورية، المجذرة لقيم المواطنة.

تأميم التعليم الابتدائي ــ وهو تعهد رئاسي بالمناسبة ــ سيحد من تجارة التعليم، ويعزز مصداقية المدرسة الجمهورية، و"يحرر جزءا من المجتمع من ربقة سوق المدارس الحرة، التي تمثل الضرورة لا الأصل، وينبغي أن تظل كذلك، حتى يستعيد التعليم العمومي مصداقيته وتمدده" يقول المفتش محمد سالم ولد أعمر.

بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنعتبر مع الأستاذ سيدي محمد ولد محم أن استقبال التعليم العمومي " كل تلاميذ الصف الأول الابتدائي خطوة تهدف إلى المساواة والدمج وأن تكون المدرسة رمز بناء تماسك المجتمع ووحدته".

ختـــــــامـا

يمكننا القول إننا اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إدراك النخبة الموريتانية بمختلف أطيافها ومشاربها لأهمية اقتناص لحظة وجود إرادة سياسية مؤمنة ومساعدة على بناء مدرسة جمهورية؛ تؤسس لتجاوز مثالب التعصب العرقي، والقبلي، والشرائحي، وتضمن انصهار الناشئة في بوتقة جامعة مانعة، قوامها المواطنة والعدل والمساواة، بعيدا عن "الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ".

عبد المجيد إبراهيم